قبل نحو 60 عاما كان لدينا رقيب يفهم فى كل شىء ناصح وذكى ولماح ويصطادها وهى طايرة، وهكذا اكتشف ألاعيب وإسقاطات الوسط الفنى، ووجد فى أغنية «يا مصطفى يا مصطفى) التى غناها بوب عزام وتضمنتها أحداث فيلم «الحب كده» تعريضا بثورة 23 يوليو، التى كان قد مضى عليها وقت إصدار الأغنية 7 سنوات، بينما تقول كلماتها «سبع سنين فى العطارين/ وانت حبيبى يا مصطفى»، وهكذا فهم الرقيب الهمام الفولة، وأنها تنتقد الثورة، أما مصطفى فإنه ولا شك مصطفى باشا النحاس زعيم الوفد، أى أن الأغنية تريد إسقاط الثورة وعودة الوفد.
من حسن حظ مصر أن الرقيب الأعلى، مدير الرقابة، كان أديبنا الكبير نجيب محفوظ، الذى اعتبر كل ما سبق كلاما فارغا، وأجاز الأغنية، لتصبح واحدة من أشهر الأغنيات فى الوطن العربى وتجاوزت الحدود، لتصل للعالم، وتحصد الآلاف التى تعتبر فى عرف هذا الزمن ملايين، ولكن حق الأداء العلنى- الذى يستند لعدد مرات تداول الأغنية وتذهب حصيلته للشاعر والملحن- تم تجميده، ولا يزال بين محمد فوزى، ملحن الأغنية، ومحمد الكحلاوى، الذى اتهم فوزى بأنه استلهم اللحن من أغنية بدوية له باسم «فضلك يا سايج المطر»، ورحل فوزى عام 66 والكحلاوى بعده بـ16 عاما ولم يستطع القضاء الحسم، ولم يحصل ورثة فوزى أو الكحلاوى على أى مقابل مادى حتى الآن.
ليس هذا موضوعنا بالطبع، ولكن القراءة المتعسفة التى نالها مؤخرا مسلسل «خلصانة بشياكة» من قبل لجنة «الضبط والربط والأخلاق الحميدة» التى يرأسها الأستاذ مكرم محمد أحمد وتحمل اسم «المجلس الأعلى لللإعلام»- تعيدنا مرة أخرى لأغنية يا مصطفى وأخواتها. اللجنة التى يرفع أعضاؤها شعار «العصا لمن عصى»، ويقول أعضاؤها إن هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه وهم سيلعبون دور الأحضان الحانية. تُشير اللجنة فى واحد من تقاريرها إلى أنها أمسكت بواحدة من الإسقاطات السياسية فى مسلسل «خلصانة بشياكة» لأحمد مكى الذى أدى شخصية «زعيم الرجالة»، فهو يتلعثم فى قراءة الخطاب الذى يلقيه على الشعب، ويرتجل ويعذب معارضيه ويقول «فاكرينى ديمقراطى بجد»، قالوا إنه يسقطها سياسيا على الوضع الحالى، هل من الممكن أن تسىء لجنة للرئيس مثل تلك، التى فجأة وجدت بين يديها طبلة فقررت أن تضرب عليها بعشوائية.
هذا المشهد أعادنى لآخر مماثل فى عهد جمال عبدالناصر، عندما قال الرقباء إن نداء «جواز عتريس من فؤادة باطل» به إسقاط على عبدالناصر، الذى طلب مشاهدة الفيلم وقال «أنا مش عتريس وإحنا مش عصابة بتحكم مصر» وصرح بعرض الفيلم.
لجنة الأستاذ مكرم سوف تُسفر عن عشرات من الكوارث المماثلة، التى تلحق الأذى بالسلطة السياسية، لا أشك لحظة واحدة فى حبهم للوطن وولائهم المطلق للرئيس، ولكن هم يعانون من «فوبيا»، هاجس يلح عليهم بأنهم حماة الوطن يدافعون عن حق الشعب فى دراما نظيفة، ولن يسمحوا لأحد بالاقتراب ولو تلميحا بالسلطة السياسية.
أتخيل الأستاذ مكرم ومعه أعضاء اللجنة الموقرون عندما يشاهدون معا مسلسل «خلصانة بشياكة» ويراجعون الحوار مثنى وثلاث ورباع، وكل منهم ينظر للآخر معجبا بقدرته على التقاط المعانى الخفية، ومع كل قفشة لمكى أو نظرة من شيكو أو تنهيدة من دينا الشربينى، يتأكدون أنهم يريدون النيل من هيبة الرئيس، أحمد مكى فى عرفهم معارض شرس خبيث، ويجب التحفظ عليه وعلى مسلسله فى مكان آمن، يا أهل «اللجنة» دماغنا وجعنا.. دقيقة سكوت لله!!
